جريدة اخبارية شاملة
رئيسي فاليو

أحمد شمس يكتب .. ما لم أقله في المؤتمر الاقتصادي

لم أتمكن من استعراض النقاط التي أردت التطرق اليها خلال مشاركتي في المؤتمر الاقتصادي نظرا لضيق الوقت و كثرة عدد المتحدثين، حيث لم يخصص لي سوي ٤ دقائق من ال ١٠ دقائق و هي الحد الأدني للمدة التي تم الاتفاق عليها مسبقًا مع المنظمين. و رأيت أن أسردها بإيجاز فيما يلي، ليس لأهميتها بالضرورة، ولكن فقط لكي تكتمل وجهة النظر التي دعيت لطرحها.

١- السياسة المالية و الأهداف الاقتصادية العامة للدولة
نثمن الجهد الذي بذلته الحكومة في انجاز برنامج الضبط المالي و الذي نجح في خفض العجز الكلي للموازنة من ١٢.٥٪؜ عام ٢٠١٦ الي ٦.٧٪؜ هذا العام مع تحقيق فائض أولي (زيادة الإيرادات عن النفقات قبل خصم خدمة الدين)؜. و قد منحنا هذا مرونة أكبر في التعامل مع الصدمات الخارجية و التي كان من الصعب التعامل معها في وجود العجز المالي السابق.

- Advertisement -

الآن و بالنظر الي التحديات الكبيرة التي نواجهها كبلد نامي وسط حالة من الضبابية الغير المسبوقة عالميًا، أعتقد انه من الأنسب إدخال بعض العوامل النوعية (Qualitative factor) في مؤشرات الآداء المالي من أجل ربط السياسة المالية بالأهداف الاقتصادية و الإجتماعية العامة للدولة، بجانب العوامل الكمية (Quantitative factors) التي تستخدمها الحكومة في تقييم الآداء. فالأرقام و المؤشرات ليست غاية و انما وسيلة لفهم و قياس القدرات في سياق اقتصادي معقد. و من هنا فليس كل عجز سلبي. في بعض الأحيان يكون استهداف العجز محمودا طالما ظل تحت السيطرة، من أجل الإنفاق علي خطط الحماية و التحفيز الإقتصادي وقت الأزمات.

فمثلا، تستهدف الحكومة الوصول بالعجز الكلي للموازنة الي قرابة ال ٤٪؜ من الناتج المحلي مع زيادة الفائض الأولي خلال الأعوام القادمة عن طريق نمو ثنائي الرقم في الضرائب و نموا أقل في الإنفاق العام. و قد يكون من الأفضل في هذه الظروف استهداف حد أقصي لعجز الموازنة في العامين القادمين مع اضفاء بعض المرونة في الإنفاق علي برامج الحماية الاجتماعية و تقديم حوافز إضافية لبعض القطاعات الاقتصادية المستهدفة و للمشروعات الصغيرة و المتوسطة.

إن التوسع في برنامج الحكومة للحماية الاجتماعية في حد ذاته هو أكبر و أسرع حزمة تحفيز لأصحاب المشروعات الصغيرة و المتوسطة لأسباب مختلفة من بينها ارتفاع معدل الميل الهامشي للاستهلاك (marginal propensity to consume) عند الطبقات الإقتصادية المستفيدة و التي تمثل المولد الأساسي للطلب علي منتجات و خدمات تلك المشروعات…

٢- المشهد الإقتصادي العالمي: عصر رأس المال الرخيص قد انتهي

قوة الدولار الأمريكي و الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة عالميًا يأتي بالأساس من عوامل هيكلية، و ليست عوامل دورية ستنتهي بمجرد انتهاء الأزمة الأوكرانية و انحسار الموجة التضخمية التي يشهدها العالم منذ إعادة فتح الاقتصاد بعد السيطرة علي جائحة كورونا. و بإيجاز، فإن أسباب الارتفاع الكبير في معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية تتعدي الارتفاع الراهن في أسعار الطاقة و الغذاء، فهو نتيجة مؤجلة و ان كانت حتمية، للسياسات التوسعية الغير مسبوقة من قبل الفيدرالي الأمريكي علي مدي أكثر من عقد كامل و وصول الاقتصاد الامريكي الي نقطة الذروة و ما تبعها من ارتفاع كبير في معدل الأجور و تكلفة العمالة لا يمكن التعامل معها بمجرد عكس السياسة النقدية من التيسير الي التشديد و لا بالتنسيق بين الفيدرالي و البنوك المركزية الرئيسية في العالم، الا باستحداث ركودا مؤقتا.

و بما أن الإقتصاد الأمريكي يغرد خارج السرب العالمي تقريبا، مقارنة بالأوضاع الإقتصادية المغايرة في أوروبا و الصين و في معظم الاقتصاديات الناشئة، فستستمر الولايات المتحدة بتصدير التضخم حتي ينخفض الطلب. و سنبدأ مرحلة جديدة من سعر الفائدة المحايد علي الدولار (Neutral interest rate) تكون فيه معدلات الفائدة أعلي من متوسطها التاريخي في خلال ال ٢٠ عاما الأخيرة. و بالتالي سيستمر الدائنون في طلب أسعار فائدة أعلي لتمويل الدول النامية ذات المخاطر الاقتصادية الأعلي و من بينها مصر. فقد ينخفض معدل العائد المطلوب علي السندات المصرية بالدولار و لكنه علي الأرجح سيكون أعلي من مستويات ما قبل الأزمة ب ٢-٣٪؜ علي الأقل، طبقا لتقديراتنا.

٣- استراتيجية التعامل مع الديون

 

نثمن مبادرة الحكومة المصرية بوضع سقف غير مرن للدين العام و تنويع مصادر التمويل محليًا. و في هذا الإطار، تحتاج مصر الي ١) رفع متوسط فترة استحقاق الدين العام الي ٥-٦ أعوام علي الأقل و ٢) تعميق السوق المحلي لأدوات الدين و توسيع قاعدة المشاركة فيه من أجل رسم منحني عائد أكثر كفاءة و ما قد ينتج عنه من استحداث أدوات ادخارية و مشتقات مالية مختلفة يفتقدها السوق المصري.

و إضافة الي ذلك، أطالب بالإعلان عن استراتيجية منفصلة و شفافة للتعامل مع ملف الديون الخارجية و هي القضية الاكثر إلحاحًا الان، و بالعودة الي الحديث عن تغيير مؤشرات الآداء، أعتقد بضرورة النظر الي حجم خدمة الدين الخارجي كنسبة من إجمالي الصادرات السنوية ، أو كنسبة من الاحتياطي النقدي الاجنبي المتاح، بدلا من ربطه بحجم الناتج المحلي، لكي نتعامل بواقعية أكثر مع متغيرات السوق العالمي، و الذي بات يطلب عائدًا علي السندات المصرية متوسطة الأجل في نطاق ال ١٥٪؜، و هو الامر الذي يصعب معه إعادة التمويل الديون المصرية بهذه الأسعار المرتفعة.

٤- صندوق النقد و ادارة التوقعات

 

و في هذا السياق، تأتي أهمية الإتفاق مع صندوق النقد كحل منخفض التكلفة لاعادة جدولة جزء من الديون الخارجية في ظل ارتفاع تكلفة التمويل عالميًا، خاصة اذا تقاربت شروط الصندوق مع الخطط و الأهداف المصرية علي المديين المتوسط و البعيد. و لحسن إدارة التوقعات، يجب التعامل مع صندوق النقد هذه المرة كأداة تمويل منخفضة التكلفة و ليست كصك للجودة أو كبوابة للاستثمارات الأجنبية المباشرة و غير المباشرة، فالوضع في ٢٠٢٢ يختلف كليًا عنه في ٢٠١٦، و اذا كنا لم نحقق نجاحًا ملموسًا في جذب الاستثمارات الأجنبية منذ اتفاق ٢٠١٦، سوي في أدوات الدين او ما يطلق عليه بالأموال الساخنة، فوضع الاقتصاد العالمي الان أصعب و أعقد مع ارتفاع تكلفة رأس المال عالميًا و هروب صناديق الاستثمار من الأسواق عالية الخطورة بشكل عام، و هذا يتطلب منا التعامل مع هذا الملف بجهد أكبر و شفافية و جدية كاملة مثل التي نراها في تنفيذ المشاريع القومية الاخري.

أتفق و بشدة مع المسؤلين المصريين في استهدافهم للمستثمر الأجنبي في حقوق الملكية (equities) و إعطائه الأولوية علي حساب المستثمر في أدوات الدين و الذي أرهقنا أنفسنا بأسعار فائدة عالية جدا من أجل اجتذابه ثم كان أول المتخارجين من السوق كالعادة عندما ارتفعت الفائدة علي الدولار. و لكن بصراحة و بدون مواربة، سواء اتفقنا مع صندوق النقد أم لم نتفق، لن تأتي الإستثمارات الأجنبية الي مصر الا بمعالجة المشكلات الحقيقية (غير المالية و غير النقدية)، التي تعوق أي تقدم في هذا الملف، و في مقدمتها كفاءة الجهاز الاداري للدولة، تنافسية القطاع الخاص و القيمة المالية المضافة، أي فرق العائد المتوقع علي رأس المال و تكلفته (التكلفة المباشرة و غير المباشرة)، مقارنة يالأسواق الناشئة الأخرى التي تتنافس معها.

٥- سوق المال: قبل أن ينخفض تصنيف مصر من سوق ناشيء الي سوق مبتدئ

و لن يجدي الحديث عن الاستثمار الخاص و دوره في التنمية المستدامة بدون العمل علي انتشال البورصة المصرية من عثرتها الحالية بأي شكل من الاشكال، و هذه المسؤلية لا تتحملها الإدارة التنفيذية للبورصة منفردة و لا ترتبط فقط بطروحات جديدة لشركات حكومية أو خاصة، أو بحوافز إضافية أو ضريبية، و لكن بوضع القطاع الخاص و دوره في المرحلة القادمة. و أجد نفسي مضطرًا للتذكير بأن البورصة ليست فقط مكانًا للمضاربين بالأموال و الباحثين عن المكسب السريع، بل هي آداة لتوسيع قاعدة المشاركة في دعم التوسعات الرأس مالية و الحصول علي رأس مال بطريقة أكثر كفاءة و أقل تكلفة، و في بعض الدول هي أداة مهمة من أدوات إعادة توزيع الثروة علي المواطنين.

و في هذا الإطار، أحذر من ان استمرار انخفاض معدلات السيولة و نسبة الأسهم الحرة في البورصة و عزوف المستثمرين الأجانب يعرضها و بقوة لمخاطرة تخفيض التصنيف من قبل المؤسسات الدولية المعنية من سوق ناشئ (Emerging market) الي سوق مبتدئ (Frontier market) و ما سيتبعه من خروج القلة الباقية من صناديق الاستثمار النشطة و السلبية و الأهم من هذا، تغير هيكلي في حجم و جودة المؤسسات الأجنبي القابلة للاستثمار في السوق.

السؤال الأهم…
و عودة مرة أخيرة الي مؤشرات الآداء، فمعيار نجاح المؤتمر الإقتصادي من وجهة نظري هو القدرة علي إجابة السؤال التالي:

تاريخنا الحديث ملئ ببرامج الإصلاح الإقتصادي المدعوم بمؤسسات دولية مثل برنامجي عام ١٩٩١ و ٢٠٠٣، و قد حققنا في كل مرة نجاحًا كبيرا في الشق المالي من حيث تخفيض عجز الموازنة بل و حققنا أيضا فائضا أوليًا في بعض السنوات، و لكن لم تستمر ثمار هذه البرامج طويلًا لأننا لم نحقق نجاحًا مماثلا في القطاع الانتاجي و الذي هو عماد أي تنمية مستدامة، في رأيي بسبب عدم التقدم بالسرعة الكافية في ملفات الإصلاح المؤسسي، سوق العمل، التنافسية و الاستثمار، بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في هذه الملفات من قبل الدولة. فكيف لهذه المرة ان تكون مختلفة؟

رئيس قطاع البحوث بالمجموعة المالية هيرميس