عاد الجدل ليتصاعد من جديد في مصر حول منصة “تيك توك”، بعد توالي وقائع توقيف عدد من صانعي المحتوى بتهم تتعلق بالإساءة للقيم المجتمعية أو التحريض على سلوكيات غير لائقة. ومع تنامي دعوات الحظر الكامل للتطبيق داخل البلاد، يتزايد التساؤل: هل المنصة نفسها هي المشكلة؟ أم أن “تيك توك” مجرد عَرَض لأزمة أعمق في بنية الوعي والذوق العام والتنشئة الاجتماعية؟
وقبل أن نُسارع إلى قرارات المنع والإغلاق، لعلّ الأجدى أن نطرح السؤال الأهم: هل “تيك توك” يُنتج هذا الانحدار القيمي؟ أم أنه ببساطة يُسرّع من انتشاره داخل بيئة جاهزة لاستقباله دون مقاومة؟ وهل يكفي حظر التطبيق لمعالجة سنوات من التراخي الثقافي، وغياب القدوة، وتراجع التعليم والمعرفة؟
تيك توك.. أداة لا فاعل أخلاقي
المنصات الرقمية لا تمتلك وعيًا أو نوايا مسبقة. “تيك توك” هو أداة، وسيط، لا يتبنى مواقف أخلاقية بل يعكس ما يُنتجه المستخدمون، ويُضخّمه بناءً على خوارزميات تتابع التفاعل لا القيم. فكما لا يُحاسب السلاح دون مَن يستخدمه، لا يمكن لوم تيك توك دون النظر في مستوى وعي مستخدميه. التطبيق لا “يُعلّم” الانحدار، بل يُعيد تدوير ما هو موجود ويُسرّعه بإيقاع بصري سريع.
من الاقتصاد السياسي إلى الذائقة الفردية
صحيح أن نشأة “تيك توك” جاءت في سياق صراع رقمي عالمي بين الصين والغرب، لكن الهدف الأساسي من وجود المنصة هو الربح، لا “إفساد الشعوب”. تحوُّلها إلى أداة ثقافية نافذة ارتبط باستعداد المجتمعات لاستهلاك المحتوى السريع والسطحي، وتراجع معايير الذوق العام، والانجذاب لما هو مثير لا لما هو مفيد. فالخوارزميات لا تُجبر أحدًا على مشاهدة محتوى معين، بل تُظهر ما ينجذب إليه المشاهد وتُرشّحه لغيره.
اقتصاد الانتباه وموت المعنى
في زمن تراجع فيه تأثير “المعنى” لصالح “اللحظة”، أصبح المقطع القصير على تيك توك قادرًا على تشكيل رأي أو خلق نجومية مؤقتة، بينما تُهمل المحاضرات والكتب لأنها “بطيئة” أمام سوق الإبهار اللحظي. إنه اقتصاد الانتباه الذي يُراهن على “حبس البصر” لا “تحفيز الفكر”، ويُنتج تفاعلًا بصريًا سريعًا على حساب التفكير النقدي.
هل إغلاق تيك توك هو الحل؟
الدعوات لحظر تيك توك تبدو في ظاهرها أخلاقية، لكنها تعكس في العمق فشلًا في التربية والثقافة. إغلاق التطبيق لا يُغيّر الواقع التربوي، تمامًا كما لا تُغيّر إزالة المرآة من ملامح الوجه. الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من “المنع”، بل من إصلاح النظام التعليمي والإعلامي والأسري، وتعزيز قيم النقد الذاتي والتفكير المستقل. فالمنصة لا تُسقِط ما هو قوي، لكنها تفضح ما هو هشّ.
هل نتحكم نحن أم تتحكم بنا الخوارزميات؟
السؤال الحقيقي ليس “هل يُفسد تيك توك المجتمع؟”، بل: “لماذا لا يقاوم المجتمع ما يُفسده؟”. المنصة تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين الحاجة والفضول، بين العمق والسطح. الحرية الرقمية لا تُقاس بكثرة الخيارات، بل بقدرتنا على الاختيار الواعي وسط زحام المحتوى. وهنا تظهر أهمية التربية، لا كقائمة من الممنوعات، بل كأداة وعي وتمييز.
تيك توك.. مرآة لا مشنقة
تيك توك لا يُربّي، لكنه يكشف. لا يُهذِّب، لكنه يُظهر المهذَّب من غيره. هو “مرآة تقنية كبرى”، تعكس حقيقتنا الرقمية، وتُضخّم ما فينا من فراغ أو عمق. وإذا أردنا التغيير، فعلينا أن نُوجّه البصر لا أن ندين الصورة. وألا نُغلق النوافذ، بل نُضيء العقول.
.









التعليقات مغلقة.