في هذه الصورة، المُلتقطة خلال جلسة برلمانية رسمية، يظهر وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي المصري المستشار محمود فوزي في وضعية مثيرة للقراءة الدلالية؛ فالصورة لا تنقل فقط لحظة عابرة يمكن تجاوزها لمُساءلة نيابية، بل تُجسِّد مفارقة كاشفة في حادثة كبرى بين الخطاب الرسمي والواقع الشعبي، وبين الرغبة في النفي والافتقار إلى الإقناع.
أولًا: لغة الجسد وتعبير الوجه… حين يتحدث التعبير بصوت أعلى من الكلمة
يظهر الوزير بفم مُغلق مُسندا رأسه إلى يده اليسرى، ووجهه يمتلئ بنظرة تنم عن نفاد صبر، أو تهكم، أو رُبَّما تحدِّي، وهي إشارة جليَّة في علم الاتصال غير اللفظي إلى إنه لا يتعامل مع الموقف بالجدية الواجبة أو الاستشعار المناسب لحساسيته. نظرة الوزير قد يُفسرها المتلقي على أنها نوع من الاستخفاف بالاتهامات النيابية أو الشكاوى الشعبية المرتبطة بتعطل التحويلات البنكية بعد حريق سنترال رمسيس؛ فتعبيرات الوجه في السياقات الرسمية لا تكون محايدة، بل تحمل شحنة معنوية تؤثر سلبًا أو إيجابًا في صدقية الرسالة الاتصالية والقدرات الاقناعية للمُتحدِّث.
ثانيًا: الهاتف الشخصي كأداة إثبات… ومغالطة المثال الفردي
رفع الوزير هاتفه الشخصي ليعرض أمام الحضور (والكاميرات) تحويلًا بنكيًا ناجحًا، وهو تصرف أراد به إثبات أن التحويلات البنكية لم تتأثر بالحريق. لكن من الناحية المنطقية، فإن هذه الحجة تقع في إطار “مغالطة التعميم المتسرع Hasty Generalization”، بل بالأحرى هي “مغالطة المثال الفردي Anecdotal Fallacy”؛ إذ أن النظام البنكي في أي دولة يتكون من ملايين العمليات اليومية، والبرهنة على فعاليته في أزمات من هذا النوع يجب أن تُبنى على مؤشرات كمية وبيانات شاملة، لا على تجربة فردية قد تكون محمية بامتيازات وظيفية أو تقنية.
ثالثًا: اختزال الأزمة في تحويل “100 جنيه” فقط
مِمَّا يُعمِّق الإشكالية في الصورة أن التحويل الظاهر على شاشة الهاتف هو لمبلغ زهيد (100 جنيه فقط). وهو بالتأكيد لا يكفي للتدليل على كفاءة منظومة التحويلات البنكية واستقرارها خلال الأزمة، بل قد يُضعف الحجة ويعطي انطباعًا أن الرد الرسمي يعاني من قصور في تقدير حجم الموقف، فطبقًا للبيانات الرسمية المنشورة، بلغ حجم المعاملات المالية المنفذة من خلال تطبيق Instapay في نهاية عام 2024 قُرابة 1.5 مليار معاملة، ووصل عدد مستخدمي التطبيق 12.5 مليون عميل. وبالتالي فإن تقديم عملية تحويل فردية صغيرة كمؤشر على سلامة النظام، يُعد استخفافًا بالسياق وتعاميًا عن الواقع، بل يكشف عن فجوة إدراكية بين المسؤول والجمهور.
رابعًا: السياق الرسمي والسلوك العفوي… تصادم الخطابات
المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا السلوك –العرض العام لشاشة الهاتف– يتم داخل قاعة رسمية، في سياق يُفترض أنه يعتمد على تقارير رسمية وبيانات موثَّقة. لكن الرد يأتي بسلوك شخصي، أقرب إلى لغة “وسائل التواصل الاجتماعي” منه إلى لغة “العمل البرلماني”. هذا التصادم بين الخطابين (الرسمي والشخصي) يُفقد الموقف وزنه الرمزي، ويدفع للظن أن الخطاب الرسمي قد فقد أدوات “الإقناع المؤسساتي”، ولجأ إلى لغة “الدليل الشعبي” غير القابل للتعميم.
خامسًا: الرموز الطبقية والدلالات البصرية
على معصم يد الوزير ظهرت ساعة يد لامعة ذهبية اللون، وهي وإن لم تكن جزءًا مباشرًا من الرسالة، إلا أنها تُقرأ بصريًا في سياق النقد الشعبي كرمز للطبقة الحاكمة المُرفَّهة، ما يزيد من فجوة “التمثيل” بين المواطن العادي وصانع القرار لا تصب في صالح رسالته مهما بلغت درجة صدقه في عرضها. فإذا ما أُضيف تعبير الوجه غير المُبالي، إلى أناقة المظهر، مع فخامة مفترضة للمكان، أمكن استنتاج إنها جميعا رموز تسهم في بناء صورة ذهنية لدى المتلقي عنوانها: “أنتم في وادٍ ونحن في وادٍ آخر”.
الخلاصة
الصورة تُمثِّل “حالة رمزية” لما يمكن تسميته بـالانفصال الدلالي بين الخطاب الحكومي والخطاب الجماهيري، فبدلًا من مواجهة الاتهام البرلماني بمعلومات رسمية شاملة توضِّح حجم العطل وآثاره ومدة حله، اختار الوزير اللجوء إلى مثال فردي، مشفوع بتعبير وجهي ساخر، ما يُفقد الرسالة قوتها، ويترك الجمهور أسيًرا لسوء الظَّن. الصورة تصلح أن تُدرّس كمثال بصري على فشل الاتصال السياسي عندما يُبنى على رمزية مفككة وافتقار للمنهجية.
[هذا المنشور يُقدّم تحليلًا أكاديميًا لصورة إعلامية من منظور دلالي وسيميائي، ولا يُعد بأي حال من الأحوال تقييمًا شاملاً لأداء سياسي أو موقف حكومي، فالتركيز فيه ينصب على ما التقطته عدسة الكاميرا من تعبيرات وإشارات بصرية ولغوية، باعتبار الصورة مادة تحليل رمزي، وليست توثيقًا شاملاً لما جرى داخل القاعة. ومن المهم التأكيد على أن سياق الموقف الكامل غير متاح في الصورة، ولا يُعرف بدقة ما السؤال أو التحدِّي الذي استجاب له الوزير بهذه الطريقة، مما يجعل التحليل قائمًا على ما هو ظاهر في المشهد المصور فقط، وفقًا لأدوات تحليل الخطاب البصري في الدراسات الإعلامية].
التعليقات مغلقة.