شكّل اللقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الأوغندي يوري موسيفيني في 12 أغسطس 2025 منعطفًا مهمًا في حلحلة تعقيدات أزمة مياه النيل. في خضم التصعيد الإقليمي والدولي، أرسل السيسي رسائل واضحة تؤكد أن مصر تدرك حجم المؤامرة التي تُحاك من أطراف واضحة، وأنها لن تتخلى عن حقوقها المائية تحت أي ضغط، وترفض ربط هذا الملف الحيوي بأي قضايا سياسية أخرى. هذه التصريحات لم تكن مجرد خطاب دبلوماسي، بل تمثل صُلب الأمن القومي المصري، صاغه الرئيس السيسي بوضوح لتكون رسالة للجميع بأن مصر تدرك وتعلم كل ما يُحاك وتملك أوراق اللعب.
كشف الرئيس السيسي عن وجود “حملة ضغوط” من جهات لم يحددها في رسالة مبطنة لهذه الجهات التي تريد أن تتجاوز مصر عن حقوقها المائية في النيل مقابل تنازلات في قضايا أخرى. ظنًا من هذه الأطراف أن هذا التكتيك باستغلال الأزمة المائية وسد النهضة سيحول الملف إلى ورقة مساومة مع مصر في مفاوضات سياسية أو اقتصادية أخرى.
ولنكن نحن واضحين، فهذه الأطراف (إسرائيل والولايات المتحدة) تريد استخدام ملف مياه النيل للضغط على مصر، ويبدو هذا واضحًا في حديث ترامب عن تمويل الولايات المتحدة لسد النهضة، في محاولة من “رجل الصفقات” لتعقيد الموقف الدولي أو إرسال رسالة لمصر بأن “لدينا جزءًا من الحل في سد النهضة، فنحن رأس المال المموّل”.
مصر، على لسان الرئيس السيسي، كانت واضحة وترسل رسائلها النارية بكل هدوء أنه لا يستطيع أحد، كائنًا من كان، أن يتسبب في خسارة نقطة من مياه النيل الذي يوفر الغذاء والمياه لـ115 مليون نسمة يعيشون في مصر (105 ملايين مصري + 10 ملايين لاجئ).
الرئيس السيسي كان واضحًا وأكد بالأرقام التي قدمها عمق المأزق المائي الذي نواجهه بالفعل بالاعتماد شبه الكلي على مياه النيل، حيث إن 98% من احتياجات مصر المائية تُستمد من النهر، دون بدائل مائية أخرى.
وحصة مصر ضئيلة نسبيًا، حيث تبلغ 85 مليار متر مكعب سنويًا لمصر والسودان معًا، وهي تمثل 4% فقط من إجمالي مياه الحوض (1600 مليار متر مكعب)، أي أن كل الأمطار التي تسقط على أراضي الأشقاء الأفارقة لا تحصل مصر والسودان على أكثر من 4% فقط منها.
كما أن المصريين يعيشون في فقر مائي، وأن نصيب الفرد سينخفض إلى 500 متر مكعب سنويًا، أي نصف حد الفقر المائي حسب الأمم المتحدة.
الرئيس السيسي عاد وأكد مرة أخرى في المؤتمر الصحفي مع الرئيس يوري موسيفيني أنه “لو تخلينا عن هذا الجزء من المياه، فهذا يعني أننا نتخلى عن حياتنا، فإنه من غير المقبول أن نتخلى عن المياه، بل من الأفضل أن نزيد كميات المياه التي تصل لمصر لأننا نعاني من الفقر المائي طبقًا للمعدلات العالمية”
رسائل الرئيس السيسي كانت واضحة برفض مصر الخضوع للضغوط، حيث قال بوضوح: “مخطئ من يظن أن مصر ستغض الطرف عن حقوقها المائية“.
كما أكد الرئيس على استمرار دعم مصر التنموي للأشقاء في دول حوض النيل، لأنها تريد التنمية والخير للجميع، وذلك من خلال ما قامت به مصر فعليًا من مشروعات وتمويلها مشروع سد “أنجلولو” بين أوغندا وكينيا بما يزيد على 100 مليون دولار.
ومصر تقدم نموذجًا تعاونيًا قائمًا على الشراكة لا الصراع، وذلك من خلال التعاون في مشروعات مثل “الإدارة المتكاملة للموارد المائية” مع أوغندا.
وكان كلام الرئيس السيسي واضحًا: “لا نعارض تنمية الأشقاء بشرط عدم المساس بحصتنا”.أي أننا مع التنمية للأشقاء الأفارقة، وملتزمون بالقانون الدولي، ونرفض الإجراءات الأحادية التي تضر بنا، ومنها ملء سد النهضة وتشغيله دون اتفاق.
تصريحات الرئيس السيسي تجاوزت الطابع السياسي إلى البعد الإنساني في رسالة للجنة السباعية المُشكّلة لإيجاد حل للمشكلة من دول حوض النيل، والتأكيد على أن عدم التوافق في تأكيد الحقوق المائية لمصر له تأثير مباشر على الغذاء، حيث إن 75% من مياه مصر تذهب للزراعة التي تُشكّل مصدر رزق 50% من السكان. ووجود 10 ملايين لاجئ في مصر يجعل الأمن المائي شرطًا لاستقرارهم، فـ”المياه كالهواء… لا غنى عنها لبقاء الإنسان”.
توقيع 5 اتفاقيات شملت التعاون في الري والزراعة والاستثمار، وإنشاء مجلس أعمال مشترك، ودعم المؤسسات الأوغندية عبر مذكرة تفاهم لإنشاء معهد دبلوماسي أوغندي، يظهر حجم التعاون مع أوغندا وأن مصر تضع استراتيجية بديلة للضغوط بالتعاون مع بقية الأشقاء في حوض النيل، تأكيدًا لمبدأ المنفعة المتبادلة كما جاء في خطاب السيسي: “نحن جميعًا نعمل من أجل مستقبل مشترك”.
وفي النهاية، فإن اللقاء بين الرئيس السيسي والرئيس الأوغندي يوري موسيفيني أكد دروسًا يجب الاستفادة منها في الحاضر والمستقبل. وحديث السيسي لم يكن مجرد رد فعل آني، بل يعكس استراتيجية مصرية قوية ومتكاملة ترفض الربط بين الملف المائي وأي قضايا أخرى، خاصة فيما يخص تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، فهذا خط أحمر وضعته مصر ولن تتنازل عنه.
مصر اختارت التعاون مع دول مثل أوغندا، مما يُضعف محاولات فرض الهيمنة المائية من قبل إثيوبيا التي ربما تظن أنها قادرة على إغلاق “محبس المياه” في سد النهضة عن مصر، وهذا ما لن يحدث أبدًا لما تملكه مصر من قدرة على انتزاع حقوقها بالطرق الدبلوماسية وبالطرق الخشنة.
فمصر توثّق الانتهاكات الإثيوبية أحادية الجانب في أروقة الأمم المتحدة، بالتوازي مع تسريع مشروعات بديلة لتحلية المياه لتخفيف الضغط عن النيل، وبناء تحالفات أفريقية داعمة عبر زيادة الاستثمارات التنموية في دول الحوض.
فهذا الملف لم يعد مجرد نزاع فني حول سد، بل تحول إلى اختبار لإرادة مصر في حماية وجودها أمام خصوم يسعون لتحويل المياه إلى سلعة. ورسالة السيسي لموسيفيني هي أيضًا رسالة للعالم: “لن نختار بين حياتنا وتنمية الآخرين، والحل الوحيد هو التعاون العادل”، يترك جميع الخيارات مفتوحة.
ومصر تضع الآن الكرة في ملعب “اللجنة السباعية” بقيادة أوغندا لاستعادة التوافق الإقليمي وإحراز هدف يخدم كل الشعوب الأفريقية وجميع دول حوض النيل.









التعليقات مغلقة.