في السنوات الأخيرة، تحوّل الساحل الشمالي من مجرد وجهة صيفية للمصطافين إلى أحد أكثر المناطق العقارية نموًا في مصر، حيث يشهد طفرة عمرانية واستثمارية كبرى تحت مظلة «الجمهورية الجديدة»، وبخطط مدروسة تعكس رؤية الدولة في تعظيم الاستفادة من ثرواتها الجغرافية والاقتصادية. لكن يبقى السؤال الأهم:
هل ما يحدث في الساحل الشمالي يخدم رفاهية فئة محدودة؟ أم أنه بالفعل حجر زاوية في بناء اقتصاد وطني أكثر تنوعًا واستدامة؟
أولًا: الساحل الشمالي الجديد.. من العزلة إلى التخطيط
كان الساحل الشمالي لعقود طويلة بمثابة “منتج صيفي مغلق” لا يتحرك إلا في ثلاثة أشهر من العام، تعج شواطئه بالزحام وتخلو طرقه بعد أغسطس. لكن مع إطلاق الدولة مخطط تطوير كامل لمنطقة الساحل الشمالي الغربي، وخاصة منطقة العلمين الجديدة ورأس الحكمة، تغيّرت المعادلة.
• العلمين أصبحت مدينة كاملة الخدمات تعمل طوال العام، وتضم جامعات دولية، ومراكز مؤتمرات، ومناطق صناعية، مما ينفي عنها صفة “المصيف الموسمي”.
• الطرق الجديدة مثل محور الضبعة، وربطها بشبكة النقل الذكي، جعلت الوصول إليها أسهل وأسرع.
• دخول الدولة كشريك ومخطط من خلال وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية، أعاد ضبط بوصلة التنمية، وربط المشروعات برؤية وطنية أكبر.
ثانيًا: الاستثمارات العقارية.. بين طفرة عمرانية ومخاوف اجتماعية
شهدت مناطق مثل رأس الحكمة والعلمين الجديدة إقبالًا هائلًا من كبار المطورين العقاريين، ما خلق سباقًا استثماريًا بقيم تجاوزت عشرات المليارات من الجنيهات والدولارات. إلا أن هذا التسارع أثار أيضًا تساؤلات مشروعة:
• هل التركيز على وحدات فاخرة يخدم الطبقة العليا فقط؟
• هل يتم تحويل الساحل إلى “جيتو اقتصادي” جديد؟
الإجابة ليست أحادية، فبينما يُطرح بالفعل عدد كبير من الوحدات بأسعار مرتفعة نسبيًا، إلا أن هناك:
• توسع في أنماط الإسكان الفندقي والخدمي.
• وحدات استثمارية قابلة للتأجير على مدار العام.
• فرص عمل ضخمة في الإنشاءات والخدمات، تخلق نفعًا مباشرًا للأسر العاملة.
وهنا يأتي دور الدولة في فرض معايير التوازن بين الرفاهية والتنمية، عبر اشتراطات البناء، وتخصيص مناطق لأنشطة مختلفة لا تقتصر على السكن الفاخر فقط.
ثالثًا: رأس الحكمة.. صفقة القرن أم عبء على التوازنات الاجتماعية؟
لا يمكن الحديث عن الساحل دون التوقف عند مشروع رأس الحكمة، الذي تصدر عناوين الأخبار باعتباره “صفقة القرن العقارية” في مصر، مع استثمارات إماراتية تتجاوز 35 مليار دولار. المشروع يعد بتحول شامل للمنطقة، لكنه يطرح أيضًا جدلًا حول:
• مدى قدرة المشروع على خلق تنمية حقيقية تتجاوز الواجهة التجميلية.
• تأثيره على أسعار الأراضي والعقارات في مصر عمومًا.
• فرص استفادة الشركات المصرية، أم سيظل النشاط محتكرًا من كيانات كبرى.
الحقيقة أن نجاح المشروع سيُقاس بمدى قدرته على بناء اقتصاد حقيقي في المنطقة، وليس فقط منشآت فاخرة. وذلك من خلال دمج الصناعات المغذية، وتشغيل الموردين المحليين، ودعم الاقتصاد الدائري، وتمكين شباب المنطقة من الانخراط فيه.
رابعًا: الأثر الاقتصادي.. أرقام الفرص والواقع
من المهم الاعتراف بأن مشروعات الساحل الشمالي الجديد لا تقتصر على الإسكان فقط، بل تشمل:
• السياحة الدولية: بجذب علامات فندقية عالمية مثل “ريتز كارلتون” و”ماندارين أورينتال”، بما يعزز إيرادات الدولة من العملة الصعبة.
• فرص العمل: حيث وفرت المشروعات الكبرى ما يقرب من 300 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة حتى الآن.
• الضرائب والعوائد العقارية: من المتوقع أن تسهم المنطقة في نمو إيرادات الدولة من الضرائب العقارية والتجارية.
لكن تبقى الإشكالية في مدى توزيع هذه العوائد على باقي المحافظات، وهل سيتحول الساحل إلى مركز اقتصادي مستقل أم متكامل ضمن المنظومة الوطنية الشاملة؟
خامسًا: الرفاهية ليست عيبًا.. ولكن بشرط
من الخطأ الوقوع في فخ ثنائية “الرفاهية مقابل التنمية”، فالبلاد التي تسعى لجذب الاستثمارات وتحقيق النمو يجب أن تبني وجهات فاخرة ومشروعات عالمية، لكن بشرط:
• أن تكون الرفاهية مدخلاً للتنمية، لا بديلًا عنها.
• أن تعمل الدولة على دمج البُعد الاجتماعي، وخلق وحدات ميسرة ومشروعات تعليمية وصحية داخل المدن الجديدة.
• أن يتم ربط التنمية في الساحل بتطوير باقي المحاور الساحلية مثل مطروح وسيوة وسيناء، لضمان التكامل الجغرافي.
خاتمة: الساحل الشمالي الجديد.. اختبار لجدّية الرؤية الاقتصادية
ما يحدث اليوم في الساحل الشمالي هو اختبار حقيقي لمدى جدية الدولة في تطبيق مفاهيم “العمران المنتج”. فالمسألة ليست في كم الأبراج أو طول الواجهة الشاطئية، بل في عدد فرص العمل، ومستوى الخدمات، وعدالة توزيع ثمار التنمية.
إن نجاح هذه التجربة سيكون عنوانًا لقدرة مصر على تحويل المناطق الساحلية من مصايف موسمية إلى محاور اقتصادية متكاملة. والعكس صحيح، فإن انفصال الساحل عن الاقتصاد الوطني سيحوّله إلى فقاعة نخبوية سرعان ما تنفجر مع أي أزمه
التعليقات مغلقة.