جريدة اخبارية شاملة
رئيس التحرير طارق شلتوت

الدكتور محمد راشد يكتب : المدن الجديدة نموذجا ..كيف نجحت مصر في هندسة عمران يُنتج اقتصادًا؟

حين ننظر إلى التجربة العمرانية المصرية خلال العقد الأخير، لا يمكننا أن نكتفي بوصفها بأنها أكبر موجة بناء وتوسّع في تاريخ البلاد فحسب، بل إنها في جوهرها إعادة هندسة شاملة للعلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الجغرافيا والاقتصاد.
فالدولة لم تُشيّد فقط مدنًا جديدة، بل أوجدت حولها روافع اقتصادية حقيقية، ضمنت أن تتحول هذه المدن إلى كيانات منتجة ومولّدة للفرص، لا مجرد تجمعات سكنية.

نجاح أي مدينة في العالم لا يُقاس بما تحويه من طرق أو أبراج أو وحدات، بل بما تُنتجه، وبما تضيفه إلى الناتج المحلي وفرص العمل والتنافسية الإقليمية.
ومصر، في هذا الإطار، أدركت مبكرًا أن العمران المستدام لا يتحقق إلا إذا ارتبط بنشاط اقتصادي واضح المعالم.
ومن هنا، ظهرت بوضوح فلسفة الدولة الجديدة: أن المدينة لا تُبنى فقط لتُسكن، بل لتُنتج وتنافس وتعيش.

- Advertisement -

تجربة العاصمة الإدارية الجديدة تُجسد هذا التوجه بوضوح. فقد تحوّلت المدينة من مجرد مشروع عمراني إلى مركز حقيقي للحوكمة الرقمية، والإدارة الذكية، والخدمات المالية، وجذبت استثمارات كبرى في قطاعات التكنولوجيا، والاتصالات، والتعليم الجامعي.
أما العلمين الجديدة، فقد تجاوزت كونها مدينة صيفية على الساحل، وأصبحت مدينة مستدامة على مدار العام، تحتضن جامعات دولية، ومراكز بحثية، ومناطق تجارية وخدمية، مع بنية تحتية تُجهزها لأن تكون نقطة جذب إقليمي في مجالات السياحة والتعليم معًا.

وفي الصعيد، ظهرت مدن مثل “غرب أسيوط” و”ناصر غرب قنا” بوظائف اقتصادية واضحة، قائمة على التصنيع والخدمات، مما يُعيد تشكيل الاقتصاد الإقليمي بعيدًا عن العاصمة التاريخية، ويُرسخ مبدأ اللامركزية الاقتصادية والتنمية المتوازنة.

النجاح المصري في هذا السياق لم يكن وليد المصادفة، بل جاء نتيجة لرؤية واعية بأن العمران بلا اقتصاد هو مشروع قابل للانهيار مهما بدا متينًا في ظاهره.
ولهذا، ارتكزت خطة الدولة على بناء منظومات متكاملة، تشمل المناطق الصناعية، والجامعات، والمراكز الطبية، والبنية التكنولوجية، والأسواق التجارية، وربطها بشبكات نقل ومحاور عملاقة تُسهل الحركة والتدفق بين المدن الجديدة والمراكز القديمة.

الروافع الاقتصادية لم تُزرع بعد اكتمال المدينة، بل صُمّمت كجزء من نسيجها الأساسي منذ لحظة التخطيط. وهو ما يفسر لماذا تحقق معدلات الإشغال الحقيقية في بعض المدن الجديدة، ولماذا بدأت تظهر أنماط حياة مستقرة فيها، مبنية على فرص العمل، لا فقط السكن.

وإذا كانت مصر قد نجحت في العقود الماضية في التغلب على أزمة الإسكان، فإنها في العقد الحالي نجحت في شيء أعمق: في توظيف العمران كأداة لإعادة توزيع الثقل السكاني والاقتصادي، وفتح أسواق وفرص جديدة، ورفع كفاءة استخدام الأرض والموارد.

واليوم، لم تعد المدن الجديدة في مصر مجرد رد فعل لأزمات التكدس، بل أصبحت أدوات استراتيجية لبناء مستقبل مختلف، تتراجع فيه المركزية، وتتقدم فيه التنمية الشاملة، وتُولد فيه وظائف، وتتغير فيه الخريطة الاقتصادية تدريجيًا لصالح تنوع حقيقي في مصادر النمو.

لهذا كله، يمكن القول بثقة إن نجاح التجربة العمرانية المصرية لا يُقاس بالبُعد الهندسي فقط، بل بالبُعد الاقتصادي الذي رسّخته الدولة بوعي وتصميم، فبنت عمرانًا ينتج، ومدينة تُسهم في الناتج المحلي، وتنمية تفتح آفاقًا واسعة للأجيال القادمة

التعليقات مغلقة.